فصل: تفسير الآيات (60- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (51- 59):

{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)}
{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ}: ما أحضرتهم، يعني إبليس وذريته. وقيل: يعني الكافرين أجمع. قال الكلبي: يعني ملائكة السماوات. وقرأ أبو جعفر: {ما أشهدناهم} بالنون والألف على التعظيم، {خَلْقَ السماوات والأرض} فأستعين بهم على خلقها، وأُشاورهم وأُوامرهم فيها، {وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً}: أنصاراً وأعواناً.
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ} قرأ حمزة بالنون. الباقون بالياء لقوله: {شُرَكَآئِيَ} ولم يقل: شركاءنا. {شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ} أنهم شركائي، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} يعني بين الأوثان وعبدتها. وقيل: بين أهل الهدى والضلالة {مَّوْبِقاً}، قال عبد الله بن عمر: هو واد عميق في جهنم يفرق به يوم القيامة بين أهل لا إله إلاّ الله، وبين من سواهم. وقال ابن عباس: هو واد في النار. وقال مجاهد: واد من حميم. وقال عكرمة: هو نهر في النار يسيل ناراً، على حافتيه حيّات مثل البغال الدهم، فإذا بادرت إليهم لتأخذوهم استغاثوا بالاقتحام في النّار منها. وقال الحسن: عداوة. وقال الضحّاك وعطاء: مهلكاً. وقال أبو عبيد: موعداً، وأصله الهلاك، يقال: أوبقه يوبقه إيباقاً، أي أهلكه، ووبق يبق وبقاً، أي هلكة، ويقال: وبق يوبق ويبق ويأبق، وهو وابق ووبق، والمصدر: وبق، ووبُوق.
{وَرَأَى المجرمون}: المشركون {النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا}: داخلوها. وقال مجاهد: مقتحموها وقيل: نازلوها وواقعون فيها. وقرأ الأعمش: {ملاقوها}، يعني مجتمعين فيها، والهاء الجمع {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً}.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبّي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنه مواقعها من مسيرة أربعين سنة».
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا}: بيّنا {فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} ليتذكروا ويتّعظوا {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}: خصومة في الباطل، يعني أُبّي بن خلف الجمحي، وقيل: إنه عام ليس بخاص، واحتجّوا بما روى «الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه هو وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تصلّون؟ فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله تعالى، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك له ولم يرجع شيئاً، فسمعته وهو يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}».
{وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا} يعني من أن يؤمنوا، {إِذْ جَآءَهُمُ الهدى}: القرآن والإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم {وَيَسْتَغْفِرُواْ}: ومن أن يستغفروا ربهم {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} يعني سنتنا في إهلاكهم {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً}، قال ابن عباس: عياناً.
قال الكلبي: هو السّيف يوم بدر. قال مجاهد: فجأة. ومن قرأ {قبلا}، بضمتين، أراد به: أصناف العذاب.
{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ}: يبطلوا ويزيلوا {بِهِ الحق}، قال السّدي: ليفسدوا، وأصل الدّحض: الزلق، يقال: دحضت رجله أي زلقته. وقال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته ** وحدت كما حاد البعير عن الدحض

{واتخذوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ}، فيه إضمار يعني: وما أُنذروا وهو القرآن {هُزُواً}: استهزاءً.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}: لم يؤمن بها {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، أي عملت يداه من الذنوب {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}، يعني القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}: ثقلاً وصمماً {وَإِن تَدْعُهُمْ} يا محمد {إلى الهدى} يعني إلى الدين {فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً}: لن يرشدوا ولن يقبلوه.
{وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ} من الذنوب {لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} في الدنيا {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} وهو يوم الحساب {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً}: معدلاً ومنجىً، قال الأعشى:
وقد أُخالس ربّ البيت غفلته ** وقد يحاذر منّي ثمّ ما يئل

أي لا ينجو.
{وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ}: كفروا، {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً}: أجلاً.

.تفسير الآيات (60- 82):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}
{وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ} الآية قال ابن عباس: لما ظهر موسى عليه السلام وقومه على مصر أنزل قومه مصر، فلّما استقرت بهم الدار أنزل الله عزّ وجلّ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5] فخطب قومه وذكر بما آتاهم الله عزّ وجلّ من الخير والنّعمة؛ إذ نجّاهم من آل فرعون وأهلك عدوّهم واستخلفهم في الأرض، فقال: «وكلّم الله نبيكم تكليماً، واصطفاني لنفسه، وألقى عليّ محبّة منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، ونبيّكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التوراة». فلم يترك نعمة أنعمها الله عزّ وجلّ عليهم إلاّ ذكرها وعرّفها إيّاهم، فقال له رجل من بني إسرائيل: قد عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: «لا». فعتب الله عزّ وجلّ عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبرئيل، فقال: «يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟ بل إن لي عبداً بمجمع البحرين أعلم منك». فسأل موسى ربّه أن يريه إيّاه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن: «ايت البحر فإنك تجد على شط البحر حوتاً، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثمّ الزم شط البحر إذا نسيت الحوت وهلك منك فثمّ تجد العبد الصالح».
وقال ابن عباس في رواية أُخرى: سأل موسى ربّه فقال: «ربّ أي عبادك أحبّ إليك؟». قال: «الذي يذكرني فلا ينساني». قال: «فأي عبادك أقضى؟». قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى». قال: «ربّي فأي عبادك أعلم؟». قال: «الذي يبغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدًى أو ترده عن ردًى». قال: «إن كان في عبادك أحد هو أعلم منّي فادللني عليه». فقال له: «نعم، في عبادي من هو أعلم منك». قال: «من هو؟». قال: «الخضر». قال: «وأين أطلبه؟». قال: «على الساحل عند الصخرة». وجعل الحوت له آية، وقال: «إذا حيّ هذا الحوت، وعاش، فإن صاحبك هناك».
وكانا قد تزودا سمكاً مالحاً فذلك قوله عزّ وجلّ: {وَإِذْ قَالَ موسى} بن عمران {لِفَتَاهُ}: صاحبه يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف. وقيل: فتاه أخو يوشع، كان معه في سفره. وقيل: فتاه عبده ومملوكه: {لا أَبْرَحُ}: لا أزال أسير {حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين}، قال قتادة: بحر فارس والروم مما يلي المشرق. وقال محمد بن كعب: طنجة. وقال أُبّي بن كعب: أفريقية، {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} وجمعه أحقاب: دهراً أو زماناً.
وقال عبد الله بن عمر: والحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون سنة. وقيل: البحران هما موسى والخضر، كانا بحرين في العلم.
فحملا خبزاً وسمكة مالحة وسارا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلاً، وعندها عين تسمى ماء الحياة، لا يصيب ذلك الماء شيئاً إلاّ حيّ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر، فذلك قوله عزّ وجلّ: {فَلَمَّا بَلَغَا}، يعني: موسى وفتاه {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} يعني: بين البحرين {نَسِيَا حُوتَهُمَا}: تركا حوتهما، وإنما كان الحوت مع يوشع، وهو الذي نسيه فصرف النسيان إليهما، والمراد به: أحدهما كما قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من المالح دون العذب. وإنما جاز ذلك؛ لأنهما كانا جميعا تزوّدا لسفرهما، فجاز إضافته إليهما، كما يقال: خرج القوم إلى موضع كذا، وحملوا معهم من الزاد كذا، وإنما حمله أحدهم، لكنه لمّا كان ذلك من أمرهم ورأيهم أُضيف إليهم. {فاتخذ} الحوت {سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً}، أي مسلكاً ومذهباً يسرب ويذهب فيه.
واختلفوا في كيفية ذلك؛ فروى أُبّي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انجاب الماء عن مسلك الحوت فصارت كوّة لم تلتئم، فدخل موسى الكوّة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر عليه السلام».
وقال ابن عباس: رأى أثر جناحه في الطين حين وقع في الماء، وجعل الحوت لا يمس شيئاً إلاّ يبس حتى صار صخرة. وروى ابن عباس عن أُبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا انتهيا إلى الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، أمسك الله عزّ وجلّ عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى عليه السلام نسي فتاه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما. حتى إذا كان من الغد {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ} موسى {لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا}».
وقال قتادة: رد الله عزّ وجلّ إلى الحوت روحه فسرب من البحر حتى أفضى إلى البحر، ثمّ سلك فجعل لا يسلك منه طريقاً إلاّ صار ماء جامداً طريقاً يبساً. وقال الكلبي: توضّأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش، ثمّ وثب في ذلك الماء، فجعل يضرب بذنبه الماء، ولا يضرب بذنبه شيئاً من الماء وهو ذاهب إلاّ يبس. {فَلَمَّا جَاوَزَا}، يعني ذلك الموضع {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا}: أعطنا {غَدَآءَنَا}: طعامنا وزادنا، وذلك أن يوشع بن نون حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى ليخبره بأمر الحوت، فنسي أن يخبره فمكثا يومهما ذلك حتى صلّيا الظهر من الغد، ولم ينصب موسى في سفره ذلك إلاّ يومئذ حين جاوز الموضع الذّي أُمر به، فقال لفتاه حين ملّ وتعب: {آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً}، أي شدة وتعباً، وذلك أنه أُلقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة، ليتذكر الحوت، ويرجع إلى موضع مطلبه، فقال له فتاه وتذكر: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ}: رجعنا {إِلَى الصخرة}، قال مقاتل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت {فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت}؟ أي تركته وفقدته.
وقيل: فيه إضمار معناه: نسيت أن أذكر أمر الحوت، ثمّ قال: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ}، يعني: أنسانيه ألاّ أذكره. وقيل: فيه تقديم وتأخير مجازه: وما أنسانيه أن أذكره إلاّ الشيطان، {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً}، يجوز أن يكون هذا من قول يوشع، يقول: اتخذ الحوت سبيله في البحر عجباً. وقيل: إن يوشع يقول: إن الحوت طفر إلى البحر فاتّخذ فيه مسلكاً، فعجبت من ذلك عجباً. ويجوز أن يكون هذا من قول موسى، قال له يوشع: {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر}، فأجابه موسى: {عَجَباً} كأنه قال: أعجب عجباً.
وقال ابن زيد: أي شيء أعجب من حوت، كان دهراً من الدهور يؤكل منه ثمّ صار حيّاً حتى حشر في البحر. قال: وكان شق حوت. وقال ابن عباس: اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجباً. قال وهب: ظهر في الماء من أثر جري الحوت شق وأُخدود شبه نهر من حيث دخلت إلى حيث انتهت. فرجع موسى حتى انتهى إلى مجمع البحرين، فإذا هو بالخضر عليه السلام، فذلك قوله: {قَالَ} موسى لفتاه: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي نطلب، يعني الخضر {فارتدا}: فرجعا {على آثَارِهِمَا قَصَصاً}: يقصان الأثر: يتبعانه.
{فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} يعني الخضر واسمه بليا بن ملكان بن يقطن، والخضر لقب له، سمّي بذلك، لما أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان: أخبرنا أبو الأزهر عن عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبّه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما سُمي الخضر خضراً؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء».
قال عبد الرزاق: فروة بيضاء يعني: حشيشة يابسة، وفروة: قطعة من الأرض فيها نبات. وقال مجاهد: إنما سمي الخضر؛ لأنه إذا صلّى اخضرّ ما حوله. وروى عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سلمان قال: رأى موسى الخضر عليه السلام على طنفسة خضراء على وجه الماء، فسلّم عليه. وقال ابن عباس عن أُبيّ بن كعب عن النبّي صلى الله عليه وسلم قال: «انتهى موسى إلى الخضر عليه السلام وهو نائم عليه ثوب مسجىً، فسلّم عليه؛ فاستوى جالساً قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. قال موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك أني نبيّ بني إسرائيل؟ قال الذي أدراك بي ودلّك علّي».
وقال سعيد بن جبير: وصل إليه وهو يصلي، فلما سلّم عليه قال: وأنّى بأرضنا السلام؟ ثمّ جلسا يتحدّثان فجاءت خطّافة وحملت بمنقارها من الماء، قال الخضر: يا موسى خطر ببالك أنّك أعلم أهل الأرض، ما علمك وما علم الأولين والآخرين في جنب الله إلاّ أقلّ من الماء الذي حملته الخطافة، فذلك قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ}: للعالم {موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}: صواباً؟ {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}؛ لأني أعمل بباطن علم علّمنيه ربّي عزّ وجلّ، {وَكَيْفَ تَصْبِرُ} يا موسى {على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً}، يعني على ما لم تعلم؟ وقال ابن عباس: وذلك أنه كان رجلاً يعمل على الغيب.
{قَالَ} موسى: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً}. قال: {فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} مما تنكر {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً}: حتى ابتدئ لك بذكره، وأُبيّن لك شأنه. {فانطلقا} يسيران يطلبان سفينة يركبانها {حتى إِذَا} أصابها {رَكِبَا فِي السفينة}، فقال أهل السفينة: هؤلاء لصوص، فأمروهما بالخروج منها، فقال صاحب السفينة: ما هم بلصوص ولكنّي أرى وجوه الأنبياء. وقال أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما دخلوا إلى البحر أخذ الخضر فأساً فخرق لوحاً من السفينة حتّى دخلها الماء فحشاها موسى ثوبه وقال له: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا}» وقرأ أهل الكوفة {ليغرق} بالياء المفتوحة {أهلها} برفع اللام على أن الفعل لهم، وهي قراءة ابن مسعود، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} أي منكراً. قال القتيبي: عجباً. والإمر في كلام العرب الداهية، قال الراجز:
قد لقيَ الأقران منّي نُكْراً ** داهية دهياء إدًّا إمرا

وأصله: كل شيء شديد كثير، يقال: أمر القوم، إذا كثروا واشتدّ أمرهم.
قال العالم {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ} موسى: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الورّاق عن حامد بن محمد قال: قال أبو سعد بن موسى المروَروذي ببغداد، وأخبرنا محمد بن أبي ناجية الاسكندراني عن سفيان بن عيينة عن عمر بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت الأُولى من أمر النسيان، والثانية القدر، ولو صبر موسى لقص الله علينا أكثر مما قص».
وقال أُبي بن كعب: أما إنه لم ينسَ، ولكنه من معاريض الكلام.
وقال ابن عباس: معناه بما تركت من عهدك، {وَلاَ تُرْهِقْنِي}: تعجلني: وقيل: لا تغشني {مِنْ أَمْرِي عُسْراً}، يقول: لا تضيّق عليّ أمري وصحبتي معك.
{فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً}، قال سعيد بن جبير: وجد الخضر غلماناً يلعبون، وأخذ غلاماً ظريفاً وضيء الوجه، فأضجعه ثمّ ذبحه بالسكين. وقال ابن عباس: كان لم يبلغ الحلم. وقال الضحّاك: كان غلاماً يعمل بالفساد، وتأذّى منه أبواه: وكان اسمه خش بوذ. وقال شعيب الحيّاني: اسمه حيشور، وقال وهب بن منبّه كان اسم أبيه ملاسَ، واسم أمه رُحمى. وقال الكلبي كان فتى يقطع الطريق، ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه ويحلفان دونه، فأخذه الخضر فصرعه ثمّ نزع من جسده رأسه. وقال قوم: رفسه برجله فقتله. وقال آخرون: ضرب رأسه بالجدار فقتله. أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبّي بن كعب قال: سمعت النبّي صلى الله عليه وسلم يقول: «الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً فلمّا قتله قال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً}؟». أي طاهرة. وقيل: مسلمة. قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان مثل القاسية والقسيّة. قال أبو عمرو: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية: التي أذنبت ثمّ تابت. {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي من غير أن قتلت نفساً أوجب عليها القود، {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً}: منكراً؟ وقال قتادة وابن كيسان: النكر: أشد وأعظم من الإمر.
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا} أي هذه المرّة {فَلاَ تُصَاحِبْنِي}: فارقني؛ {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} في فراقي. أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشير عن حجاج بن محمد: أخبرنا حمزة الزّيات عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، عن أُبّي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى أخي موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب العجاب، ولكنه قال: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً}».
{فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ} قال ابن عباس: يعني أنطاكية. وقال ابن سيرين: أيلة، وهي أبعد أرض الله من السّماء {استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا}، أي ينزّلوهما منزلة الأضياف؛ وذلك أنهما استطعماهم فلم يطعموهما، واستضافاهم فلم يضيفوهما. أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سلمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبّي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} قال: «كانوا أهل قرية لئاماً».
وقال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تُضيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقّه.
{فَوَجَدَا فِيهَا}، أي في القرية {جِدَاراً}، قال وهب: كان جداراً طوله في السماء مئة ذراع، {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} هذا من مجاز الكلام، لأن الجدار لا إرادة له، وإنما معناه: قرب ودنا من ذلك، كقول الله تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90]. قال ذو الرمّة:
قد كاد أو قد هم بالبيود

وقال بعضهم: إنما رجع إلى صاحبه، لأن هذه الحالة إذا كانت من ربّه فهو إرادته، كقول الله تعالى: {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} [الأعراف: 154] وإنما يسكت صاحبه. وقال: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} [محمد: 21] وإنما يعزم أهله. قال الحارثي:
يريد الرمح صدر أبي براء ** ويرغب عن دماء بني عقيل

وقال عقيل:
إنّ دهراً يلف شمل سليمى ** لزمان يهّم بالإحسان

{أَن يَنقَضَّ}، أي يسقط وينهدم، ومنه انقضاض الكواكب، وهو سقوطها وزوالها عن أماكنها. وقرأ يحيى بن عمر: {يريد أن ينقاض} أي ينقلع وينصدع، يقال: انقاضّت السنّ: انصدعت من أصلها. وقال بعض الكوفيين: الانقياض: الشق طولاً، يقال: انقاض الحائط والسن وطيّ البئر، إذا انشقت طولاً. {فَأَقَامَهُ}: سوّاه. قال ابن عباس: هدمه ثمّ قعد يبنيه. وقال سعيد بن جبير: مسح الجدار ودفعه بيده، فاستقام. قال موسى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ}، وقرأ أبو عمرو: {لتَخذت} وهما لغتان مثل قولك: (اتّبع) و(تبِع)، و(اتّقى) و(تقى)، قال الشاعر:
وقد تخدت رحلي إلى جنب غرزها ** نسيفاً كأفحوص القطاة المطرّق

وأنشد الزجاج في قوله: {لتخذت} قول أبي شمام الصبابي:
تخذوا الحديد من الحديد معاولاً ** سكانها الأرواح والأجساد

{عَلَيْهِ}، أي على إصلاحه وإقامته {أَجْراً}، أي جَعْلاً وأُجرة. وقيل: قرىً وضيافة. فقال الخضر عليه السلام: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} قرأ لاحق بن حميد: {فراق} بالتنوين، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر} قال كعب: كانت لعشرة إخوة: خمسة منهم زمنى، وخمسة منهم يعملون في البحر. وفي قوله: {مَسَاكِينَ} دليل على أن المسكين وإن كان مَلَكَ شيئاً فلا يزول عنه اسم المسكنة إذا كانت به حاجة إلى ما هو زيادة على ملكه، ويجوز له أخذ الزكاة. وأخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن علي الحمشادي، عن أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال: أبو الحسن أحمد بن زكريا المقدسي عن إبراهيم بن عبد الله الصنعاني عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: قوله: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر}، كانوا مساكين والسفينة تساوي ألف دينار؟ قال: إن المسافر مسكين ولو كان معه ألف دينار. {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم} أي أمامهم وقدّامهم كقوله تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون: 100] أي أمامهم. قال الشاعر:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ** وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقيل: {وَرَآءَهُم}: خلفهم، وكان رجوعهم في طريقهم عليه، ولم يكونوا يعلمون بخبره فأعلم الله الخضر عليه السلام بخبره. {مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}، أي كل سفينة صالحة، فاكتفى بدلالة الكلام عليه، يدل عليه ما روى سفيان عن عمر بن دينار عن ابن عباس أنه يقرأ {وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً}. فخرقها وعيّبها، لئلاّ يتعرض لها ذلك الملك، واسمه جلندى وكان كافراً. قال محمد بن إسحاق: وكان اسمه منواه بن جلندى الأردني. وقال شعيب الجبائي اسمه هدد بن بدد.
{وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ}، أي فعلمنا. وفي مصحف أُبيّ: {فخاف ربك} أي علم، ونظائره كثيرة. وقال قطرب: معناه فكرهنا، كما تقول: فرّقت بين الرجّلين خشية أن يقتتلا، وليست فيك خشية ولكن كراهة أن يقتتلا. {أَن يُرْهِقَهُمَا}، أي يهلكهما. وقيل: يغشاهما. وقال الكلبي: يكلّفهما {طُغْيَاناً وَكُفْراً}، قال سعيد بن جبير: خشينا أن يحملهما حبّه على أن يدخلهما معه في دينه.
{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً}: صلاحاً وإسلاماً {وَأَقْرَبَ رُحْماً} هو من الرحم والقرابة. وقيل: هو من الرحمة، يقال: رحَم ورحُم للرحمة، مثل هلك وهلك، وعمر وعمر، قال العجّاج:
ولم تعوَّج رحمُ من تعوّجا

قال ابن عباس: {وَأَقْرَبَ رُحْماً} يعني: وأوصل للرحم وأبرّ بوالديه. قال قتادة: أقرب خيراً، وقال ابن جريج: يعني أرحم به منهما بالمقتول. وقال الفراء: وأقرب أن يرحما له. قال الكلبي: أبدلهما الله جارية، فتزوّجها نبّي من الأنبياء، فولدت له نبياً فهدى الله عزّ وجلّ على يديه أُمّة من الأُمم. وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن أحمد قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن الحرث القاضي عن عبد الوّهاب بن فليح عن ميمون بن عبد الله القدّاح عن جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الآية قال: «أبدلهما جارية فولدت سبعين نبياً».
وقال ابن جريج: أبدلهما بغلام مسلم وكان المقتول كافراً وكذلك هو في حرف اُبي: {فأما الغلام فكان كافراً، وكان أبواه مؤمنين}. وقال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرضَ امرؤ بقضاء الله؛ فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
{وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة} واسمهما أصرم وصريم {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} اختلفوا في ذلك الكنز ما هو، فقال بعضهم: صحف فيها علم مدفونة تحته، وهو قول سعيد ابن جبير. وقال ابن عباس: ما كان الكنز إلاّ علماً، وقال الحسن وجعفر بن محمد: «كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله».
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول مرفوعاً في بعض الروايات أنه كان مكتوباً في ذلك اللوح تحت ما ذكر هذه الآيات: يا أيُّها المهتم هماً لا تهمّه، إنك إن تدركك الحمّى تحمّ [...] علوت شاهقاً من العلم كيف توقيك وقد جفّ القلم؟.
وقال عكرمة كان ذلك الكنز مالاً. أخبرنا أبو بكر الحمشادي: حدثنا أبو الحسن أحمد ابن محمد بن قيدوس الطرائقي عن عثمان بن سعيد عن صفوان بن صالح الثقفي عن الوليد بن مسلم عن يزيد بن يوسف الصنعاني عن يزيد بن أبي يزيد عن مكحول عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا}، قال: «كان ذهباً وفضّة».
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً}، واسمه كاشح، وكان من الأتقياء. ذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء، وكان سيّاحاً. وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن الحميدي عن سفيان عن محمد ابن سوقة عن محمد بن المنكدر قال: إنّ الله عزّ وجلّ ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، وعشيرته التي هو فيها، والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله وستره.
وعن سعيد بن المسيّب أنه كان إذا رأى ابنه قال: أي بني لأزيدن صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك. ويتلو هذه الآية. وأخبرنا عبد الله بن حامد عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي عن أحمد بن الليث بن الخليل عن عمر بن محمد قال: حدّثني محمد بن الهيثم ابن عبد الله الضبيعي عن العباس بن محمد بن عبد الرحمن: حدّثني أبي عن يحيى بن إسماعيل بن مسلمة ابن كهيل قال: كانت لي أخت أسن منّي فاختلطت وذهب عقلها، وتوحّشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحها، فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، وكانت مع ذهاب عقلها تحرص على الصلاة والطهور. فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ باب بيتي يُدق في نصف الليل، فقلت: من هذا؟ قالت: بحّة. قلت: أُختي قالت: أُختك. فقلت: لبيك. وقمت ففتحت الباب، فدخلت ولا عهد لها بالبيت منذ أكثر من عشر سنين، فقلت لها: يا أخته خيراً؟ قالت: خير، أُتيت الليلة في منامي، فقيل: السلام عليك يا بحّة، فقلت: وعليك السلام، فقيل: إنّ الله قد حفظ أباك إسماعيل بن سلمة بن كهيل بسلمة جدك، وحفظك بأبيك إسماعيل، فإن شئت دعوت الله لك فأذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنّة، فإن أبا بكر وعمر قد تشفعا لك إلى الله عزّ وجلّ بحب أبيك وجدك إيّاهما.
فقلت: إن كان لا بدّ من اختيار أحدهما، فالصبر على ما أنا فيه والجنّة، فإن الله عزّ وجلّ لواسع لخلقه لا يتعاظمه شيء، إن يشأ يجمعهما لي فعل. قالت: فقيل لي: قد جمعهما الله عزّ وجلّ لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر، قومي فانزلي. قال: فأذهب الله ما بها.
{فَأَرَادَ رَبُّكَ} يا موسى {أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا}، أي يدركا شدّتهما وقوّتهما. وقيل: ثماني عشرة سنة، {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} المكنوز تحت الجدار، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} برأيي ومن تلقاء نفسي، بل فعلت عن أمر الله عزّ وجلّ. {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْر} واسطاع واستطاع بمعنى واحد.